الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
أَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْغِنَاءِ وَعَنْ اسْتِمَاعِهِ , وَقَالَ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ . وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يُرَخِّصُ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ , فَقَالَ إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْغِنَاءَ وَيَجْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ , وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ سُفْيَانُ وَحَمَّادٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ الْمَذَاهِبِ , وَقَوْلُهُ فِيهِ أَغْلَظُ الْأَقْوَالِ , وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُهُ بِتَحْرِيمِ سَمَاعِ الْمَلَاهِي كُلِّهَا كَالْمِزْمَارِ وَالدُّفِّ حَتَّى الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ , وَصَرَّحُوا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ تُوجِبُ الْفِسْقَ وَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ , وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا: إنَّ السَّمَاعَ فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذَ بِهِ كُفْرٌ , هَذَا لَفْظُهُمْ , وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ قَالُوا وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ لَا يَسْمَعَهُ إذَا مَرَّ بِهِ أَوْ كَانَ فِي جِوَارِهِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي دَارٍ يُسْمَعُ مِنْهَا صَوْتُ الْمَعَازِفِ وَالْمَلَاهِي: اُدْخُلْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ , لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ , فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إذْنٍ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ إقَامَةِ الْفُرُوضِ . وَأَمَّا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ: إنَّ الْغِنَاءَ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ وَالْمُحَالَ , مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ . وَصَرَّحَ أَصْحَابُهُ الْعَارِفُونَ بِمَذْهَبِهِ بِتَحْرِيمِهِ , وَأَنْكَرُوا مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ حِلَّهُ كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ فِي التَّنْبِيهِ: وَلَا تَصِحُّ يَعْنِي الْإِجَارَةَ عَلَى مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ كَالْغِنَاءِ وَالزَّمْرِ وَحَمْلِ الْخَمْرِ , و لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا . وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ وَكَلَامُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّغْبِيرِ . وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ . وَقَدْ نَصَّ فِي أَيْتَامٍ وَرِثُوا جَارِيَةً مُغَنِّيَةً فَأَرَادُوا بَيْعَهَا , فَقَالَ لَا تُبَاعُ إلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةٌ , فَقَالُوا إذَا بِيعَتْ مُغَنِّيَةً سَاوَتْ عِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهَا , وَإِذَا بِيعَتْ سَاذَجَةً لَا تُسَاوِي أَلْفَيْنِ , فَقَالَ لَا تُبَاعُ إلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةٌ , فَلَوْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْغِنَاءِ مُبَاحَةً لَمَا فَوَّتَ هَذَا الْمَالَ عَلَى الْأَيْتَامِ . (الثَّانِي) مَحِلُّ الْخِلَافِ إنْ لَمْ يَكُنْ السَّمَاعُ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ أَوْ أَمْرَدَ فَأَمَّا سَمَاعُهُ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ فَمِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَشَدِّهَا إفْسَادًا لِلدِّينِ . قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ إذَا جَمَعَ النَّاسَ لِسَمَاعِهَا فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ , وَغَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ وَقَالَ هُوَ دِيَاثَةٌ , فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ دَيُّوثًا . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَإِنَّمَا جُعِلَ صَاحِبُهَا سَفِيهًا لِأَنَّهُ دَعَا النَّاسَ إلَى الْبَاطِلِ , وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إلَى الْبَاطِلِ كَانَ سَفِيهًا فَاسِقًا . قَالَ وَأَمَّا الْعُودُ وَالطُّنْبُورُ وَسَائِرُ الْمَلَاهِي فَحَرَامٌ وَمُسْتَمِعُهُ فَاسِقٌ , وَاتِّبَاعُ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ رَجُلَيْنِ مَطْعُونٌ عَلَيْهِمَا . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ يُرِيدُ بِهِمَا (إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعِيدٍ (وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ) فَإِنَّهُ قَالَ وَمَا خَالَفَ فِي الْغِنَاءِ إلَّا رَجُلَانِ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ , فَإِنَّ السَّاجِيَّ حَكَى عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا , وَالثَّانِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَهُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ . انْتَهَى .
(الثَّالِثُ) أَبَاحَتْ السَّمَاعَ الصُّوفِيَّةُ وَأَتَوْا عَلَى إبَاحَتِهِ بِأَدِلَّةٍ غَيْرِ وَفِيَّةٍ . فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ , وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا , وَلَمْ يَرْفَعُوا لِمُخَالِفِيهِمْ فِي ذَلِكَ أَسًا , وَأَنْكَرُوا عَلَى مَانِعِهِ أَصْلًا وَفَرْعًا , وَجَعَلُوهُ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَصْلَ حَقِيقَةً وَشَرْعًا قَالُوا وَيَلْزَمُ مَنْ حَظَّرَ الْغِنَاءَ تَخْطِئَةُ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ , وَتَفْسِيقُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ , إذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْغِنَاءَ وَتَوَاجَدُوا , وَأَفْضَى بِهِمْ إلَى الصُّرَاخِ وَالْغَشْيِ وَالصَّفْقِ وَعَرْبَدُوا . وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ تَفْصِيلًا حَسَنًا بِحَسَبِ الْعَقْلِ , لَوْ سَاعَدَهُ الْقِيَاسُ وَالنَّقْلُ , فَقَالَ مَنْ صَحَّ فَهْمُهُ , وَحَسُنَ قَصْدُهُ , وَصَقَلَتْ الرِّيَاضَةُ مِرْآةَ قَلْبِهِ , وَجَلَتْ نَسَمَاتُ الْعَزِيمَةِ فَضَاءَ سِرِّهِ , فَصَفَا مِنْ تَصَاعُدِ أَكْدَارِ أَرْضِ طَبْعِهِ , وَبُخَارِ بَشَرِيَّتِهِ , وَخَيَلَانِ وَسْوَاسِهِ , وَعَرِيَ مِنْ حضوض الشَّهَوَاتِ , وَتَطَهَّرَ مِنْ دَنَسِ الشُّبُهَاتِ , فَلَا نَقُولُ: إنَّ سَمَاعَهُ حَرَامٌ , وَفِعْلَهُ ذَلِكَ خَطَأٌ . قَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: مَنْ طَعَنَ فِي السَّمَاعِ فَقَدْ طَعَنَ فِي سَبْعِينَ صِدِّيقًا وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ السَّمَاعِ فَقَالَ ظَاهِرُهُ فِتْنَةٌ وَبَاطِنُهُ عِبْرَةٌ , فَمَنْ عَرَفَ الْإِشَارَةَ حَلَّ لَهُ السَّمَاعُ وَالَا فَقَدْ اسْتَدْعَى الْفِتْنَةَ وَتَعَرَّضَ لِلْبَلِيَّةِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّمَاعَ مُهَيِّجٌ مَا فِي الْقُلُوبِ مُحَرِّكٌ مَا فِيهَا , فَلَمَّا كَانَتْ قُلُوبُ الْقَوْمِ مَعْمُورَةً بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَافِيَةً مِنْ كَدَرِ الشَّهَوَاتِ , مُحْتَرِقَةً بِحُبِّ اللَّهِ لَيْسَ فِيهَا سِوَاهُ , فَالشَّوْقُ وَالْوَجْدُ وَالْهَيَجَانُ وَالْقَلَقُ كَامِنٌ فِي قُلُوبِهِمْ كُمُونَ النَّارِ فِي الزِّنَادِ , فَلَا تَظْهَرُ إلَّا بِمُصَادَفَةِ مَا يُشَاكِلُهَا . فَمُرَادُ الْقَوْمِ فِيمَا يَسْمَعُونَ إنَّمَا هُوَ مُصَادِفٌ مَا فِي قُلُوبِهِمْ , فَيَسْتَثِيرُهُ بِصَدْمَةِ طُرُوقِهِ وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِ , فَتَعْجَزُ الْقُلُوبُ عَنْ الثُّبُوتِ عَنْ اصْطِدَامِهِ , فَتَبْعَثُ الْجَوَارِحَ بِالْحَرَكَاتِ وَالصَّرَخَاتِ وَالصَّعَقَاتِ لِثَوَرَانِ مَا في الْقُلُوبِ , لَا أَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهَا شَيْئًا . قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: السَّمَاعُ لَا يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ شَيْئًا وَإِنَّمَا هُوَ مُهَيِّجٌ مَا فِيهِ فَتَرَاهُمْ يَهِيجُونَ مِنْ وَجْدِهِمْ , وَيَنْطِقُونَ مِنْ حَيْثُ قَصْدُهُمْ , وَيَتَوَاجَدُونَ مِنْ حَيْثُ كَامِنَاتُ سَرَائِرِهِمْ , لَا مِنْ حَيْثُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَمُرَادُ الْقَائِلِ , وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْفَهْمَ سَبَقَ إلَى مَا يَتَخَيَّلُهُ الذِّهْنُ . وَشَاهِدُ ذَلِكَ كَمَا حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَكْمَانَ الصُّوفِيَّ سَمِعَ رَجُلًا يَطُوفُ وَيُنَادِي (يَا سعتربري) فَسَقَطَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْته وَهُوَ يَقُولُ اسْعَ تَرَ بِرِّي , أَلَا تَرَى أَنَّ حَرَكَةَ وَجْدِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِيهِ مِنْ وَقْتِهِ لَا مِنْ حَيْثُ قَوْلُ الْقَائِلِ وَلَا قَصْدُهُ كَمَا رَوَى بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: الْخِيَارُ عَشْرَةٌ بِحَبَّةٍ , فَغَلَبَهُ الْوَجْدُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ عَشْرَةٌ بِحَبَّةٍ فَمَا قِيمَةُ الْأَشْرَارِ فَالْمُحْتَرِقُ بِحُبِّ اللَّهِ لَا تَمْنَعُهُ الْأَلْفَاظُ الْكَثِيفَةُ , عَنْ فَهْمِ الْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ , فَلَمْ يَكُنْ وَاقِفًا مَعَ نَغْمَةٍ وَلَا مُشَاهَدَةِ صُورَةٍ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ السَّمَاعَ يَرْجِعُ إلَى رِقَّةِ الْمَعْنَى وَطِيبِ النَّغْمَةِ فَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ السَّمَاعِ . قَالُوا وَإِنَّمَا السَّمَاعُ حَقِيقَةٌ رَبَّانِيَّةٌ , وَلَطِيفَةٌ رُوحَانِيَّةٌ , تَسْرِي مِنْ السَّمِيعِ الْمُسْمَعِ إلَى الْأَسْرَارِ , بِلَطَائِف التُّحَفِ وَالْأَنْوَارِ , فَتَمْحَقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا لَمْ يَكُنْ , وَيَبْقَى فِيهِ مَا لَمْ يَزُلْ , فَهُوَ سَمَاعُ حَقٍّ بِحَقٍّ مِنْ حَقٍّ . قَالُوا وَأَمَّا الْحَالُ الَّذِي يَلْحَقُ الْمُتَوَاجِدَ , فَمِنْ ضَعْفِ حَالِهِ عَنْ تَحَمُّلِ الْوَارِدِ , وَذَلِكَ لِازْدِحَامِ أَنْوَارِ الطَّائِفِ فِي دُخُولِ بَابِ الْقَلْبِ , فَيَلْحَقُهُ دَهْشٌ فَيَبْعَثُ بِجَوَارِحِهِ , وَيَسْتَرِيحُ إلَى الصَّعْقَةِ وَالصَّرْخَةِ وَالشَّهْقَةِ . وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْبِدَايَاتِ , وَأَمَّا أَهْلُ النِّهَايَاتِ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ السُّكُونُ وَالثُّبُوتُ لِانْشِرَاحِ صُدُورِهِمْ , وَاتِّسَاعِ سَرَائِرِهِمْ الْوَارِدِ عَلَيْهِمْ , فَهُمْ فِي سُكُونِهِمْ مُتَحَرِّكُونَ , وَفِي ثُبُوتِهِمْ مُتَقَلْقِلُونَ , كَمَا قِيلَ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ رضي الله عنه: مَا لَنَا لَا نَرَاك تَتَحَرَّك عِنْدَ السَّمَاعِ؟ فَقَالَ قَالُوا فَالْعَارِفُ هُوَ الَّذِي سَمِعَ مِنْ اللَّهِ , وَمَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ كَيْفَ يَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ , وَمَنْ لَا يَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ فَالْبَهِيمَةُ خَيْرٌ مِنْهُ وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ: مَنْ ادَّعَى السَّمَاعَ فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ صَوْتِ الطُّيُورِ وَصَرِيرِ الْبَابِ وَتَصْفِيقِ الرِّيَاحِ فَهُوَ مُدَّعٍ , فَالْعَارِفُ يَسْمَعُ لَطِيفَ الْإِشَارَةِ , مِنْ كَثِيفِ الْعِبَارَةِ . وَدَخَلَ يَوْمًا أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ وَوَاحِدٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرٍ عَلَيْهِ بَكْرَةٌ فَتَوَاجَدَ , فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ , فَقَالَ إنَّهَا تَقُولُ اللَّهَ اللَّهَ . قَالُوا: وَسَمِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه صَوْتَ نَاقُوسٍ , فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا لَا , قَالَ إنَّهُ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ حَقًّا حَقًّا . إنَّ الْمَوْلَى صَمَدِيٌّ يَبْقَى يَا أَهْلَ الدُّنْيَا إنَّ الدُّنْيَا قَدْ غَرَّتْنَا وَاسْتَهْوَتْنَا واستغوتنا . يَا ابْنَ الدُّنْيَا مَهْلًا مَهْلًا . يَا ابْنَ الدُّنْيَا تَفْنَى الدُّنْيَا قَرْنًا قَرْنًا . مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا إلَّا يُهْوِي مِنَّا رُكْنًا . قَالُوا: وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ مَارٌّ عَلَى دُكَّانِ قَطَّانٍ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ قَوْسَهُ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا لَا , قَالَ إنَّهُ يَقُولُ: لَوْ عِشْت عُمْرَ نُوحٍ وَضِعْفَ ضِعْفَ ضِعْفَ ذَاكَ أَلَسْت بَعْدَهَا تَفِ تَفِ تَفِ . قَالَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَ السَّمَاعُ , وَسَمِعَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَكَابِرِ وَالْمَشَايِخِ وَالتَّابِعِينَ وَمِنْ الصَّحَابَةِ , فَنُقِلَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ . قَالَ وَجَاءَ عَنْهُ آثَارٌ فِي إبَاحَةِ السَّمَاعِ وَجَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ . قَالَ وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَتِهِ مِنْ السَّلَفِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَجْمَعَ يُبِيحُونَ الْغِنَاءَ , كَذَا قَالَ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُلَقَّبِ بِالْقَسِّ وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّهُ مَرَّ يَوْمًا بِسَلَّامَةَ وَهِيَ تُغَنِّي فَقَامَ يَسْمَعُ غِنَاءَهَا فَرَآهُ مَوْلَاهَا فَقَالَ لَهُ هَلْ لَك أَنْ تَدْخُلَ وَتَسْمَعَ؟ فَأَبَى وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ فَغَنَّتْهُ فَأَعْجَبَتْهُ , وَلَمْ يَزَلْ يَسْمَعُهَا وَيُلَاحِظُهَا النَّظَرَ حَتَّى شُغِفَ بِهَا , فَلَمَّا شَعَرَتْ لِلَحْظِهِ إيَّاهَا , غَنَّتْهُ: رُبَّ رَسُولَيْنِ لَنَا بَلَّغَا رِسَالَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَحَا الطَّرْفَ وَالظَّرْفَ بَعَثْنَاهُمَا فَقَضَيَا حَاجًا وَمَا صَرَّحَا قَالَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ وَكَادَ يَهْلَكُ , فَقَالَتْ لَهُ وَاَللَّهِ إنِّي أُحِبُّك , قَالَ أَنَا وَاَللَّهِ أُحِبُّك . قَالَتْ وَأُحِبُّ أَنْ أَضَعَ فَمِي عَلَى فَمِك , قَالَ وَأَنَا وَاَللَّهِ فَمَا يَمْنَعُك مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَاقَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَك عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ , أَمَا سَمِعْت قوله تعالى وَقَدْ رُوِيَ مِنْ الْجُنَيْدِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَنَّهُ تَرَكَ السَّمَاعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ , فَقِيلَ لَهُ كُنْت تَسْمَعُ أَفَلَا تَسْمَعُ؟ قَالَ مَعَ مَنْ؟ فَقِيلَ لَهُ أَنْتَ تَسْمَعُ لِنَفْسِك , فَقَالَ مِمَّنْ , فَالسَّمَاعُ لَا يُحْسَنُ إلَّا بِأَهْلِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ وَمِنْ أَهْلِهِ , فَإِذَا انْعَدَمَ أَهْلُهُ وَانْدَرَسَ مَحَلُّهُ فَيَجِبُ عَلَى الْعَارِفِ تَرْكُهُ . وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَهُوَ لِمَنْ لَاحَظَ لَهُ مِنْهُ إلَّا التَّلَذُّذَ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ وَاسْتِدْعَاءِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ , أَوْ يَتَذَكَّرُ بِهِ غَائِبًا أَوْ مَيِّتًا فَيُثِيرُ حُزْنُهُ فَيُتَرَوَّحُ بِمَا يَسْمَعُهُ . وَمِنْهُ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ وَهُوَ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّوْقُ إلَيْهِ , فَلَا يُحَرِّكُ السَّمَاعُ مِنْهُ إلَّا الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةَ كَمَا مَرَّ . وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَمِعَ فَظَهَرَتْ عَلَيْهِ صِفَاتُ نَفْسِهِ وَذَكَرَ لَهَا حُظُوظَ دُنْيَاهُ وَاسْتَثَارَ بِسَمَاعِهِ وَسَاوِسَ هَوَاهُ , فَالسَّمَاعُ عَلَيْهِ حَرَامٌ مَحْضٌ . وَمَنْ سَمِعَ فَظَهَرَ لَهُ ذِكْرُ رَبِّهِ , وَخَوْفُهُ مِنْ ذَنْبِهِ , وَتَذَكَّرَ آخِرَتَهُ , فَأَنْتَجَ لَهُ ذَلِكَ الذِّكْرُ شَوْقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْهُ وَرَجَاءً لِوَعْدِهِ وَحَذَرًا مِنْ وَعِيدِهِ , فَسَمَاعُهُ ذِكْرٌ مِنْ الْأَذْكَارِ عِنْدَهُمْ . هَذَا حَاصِلُ مَقَالَاتِهِمْ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ , وَمَعْنَى إشَارَاتِهِمْ وَإِنْ تَشَعَّبَتْ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ مَنْظُورٍ إلَيْهِ , وَلَا مُلْتَفَتٌ لَهُ , وَلَا مُعَوَّلٌ عَلَيْهِ . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ يَعْنِي الصُّوفِيَّةَ مُخَالِفَةٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْغِنَاءَ دِينًا وَطَاعَةً , وَرَأَتْ إعْلَانَهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ وَسَائِرِ الْبِقَاعِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْمَشَاهِدِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْبِضَاعَةِ قَالَ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ رَأَى هَذَا الرَّأْيَ . وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَلَا قُلْ لَهُمْ قَوْلَ عَبْدٍ نَصُوحٍ وَحَقُّ النَّصِيحَةِ أَنْ تُسْتَمَعْ مَتَى عَلِمَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ بِأَنَّ الْغِنَا سُنَّةٌ تُتَّبَعْ وَأَنْ يَأْكُلَ الْمَرْءُ أَكْلَ الْحِمَارِ وَيَرْقُصَ فِي الْجَمْعِ حَتَّى يَقَعْ وَقَالُوا سَكِرْنَا بِحُبِّ الْإِلَهِ وَمَا أَسْكَرَ الْقَوْمَ إلَّا الْفَضَعْ كَذَاك الْبَهَائِمُ إنْ أُشْبِعَتْ يُرَقِّصُهَا رَبُّهَا وَالشِّبَعْ وَيُسْكِرُهُ النَّايُ ثُمَّ الْغِنَا وَ يس لَوْ تُلِيَتْ مَا انْصَدَعْ فَيَا لِلْعُقُولِ وَيَا لِلنُّهَى أَلَا مُنْكِرٌ مِنْكُمُو لِلْبِدَعْ تُهَانُ مَسَاجِدُنَا بِالسَّمَاعِ وَتُكْرَمُ عَنْ مِثْلِ ذَاكَ الْبِيَعُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا السَّمَاعُ الشَّيْطَانِيُّ الْمُضَادُّ لِلسَّمَاعِ الرَّحْمَانِيِّ لَهُ فِي الشَّرْعِ بِضْعَةَ عَشَرَ اسْمًا: اللَّهْوُ , وَاللَّغْوُ , وَالْوِزْرُ " وَالْمُكَاءُ , وَالتَّصْدِيَةُ وَرُقْيَةُ الزِّنَا , وَقُرْآنُ الشَّيْطَانِ , وَمَنْبَتُ النِّفَاقِ فِي الْقَلْبِ , وَالصَّوْتُ الْأَحْمَقُ , وَالصَّوْتُ الْفَاجِرُ , وَصَوْتُ الشَّيْطَانِ , وَمَزْمُورُ الشَّيْطَانِ , وَالسُّمُودُ . أَسْمَاؤُهُ دَلَّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ تَبًّا لِذِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَوْصَافِ ثُمَّ ذَكَرَ أَدِلَّتَهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَالِاسْمُ اللَّهْوُ وَلَهْوُ الْحَدِيثِ . قَالَ تَعَالَى قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ الْغِنَاءُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ , و ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الصَّهْبَاءِ عَنْهُ , وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ تُغَنِّيه لَيْلًا وَنَهَارًا , قَالَ وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي إسْحَاقَ أَيْضًا . قَالَ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ لَهْوَ الْحَدِيثِ هَاهُنَا هُوَ الْغِنَاءُ لِأَنَّهُ يُلْهِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَنْ اخْتَارَ اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ وَالْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى الْقُرْآنِ , وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ قَدْ وَرَدَ بِالشِّرَاءِ فَلَفْظُ الشِّرَاءِ يُذْكَرُ فِي الِاسْتِبْدَالِ وَالِاخْتِيَارِ . قَالَ وَبِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الضَّلَالَةِ أَنْ يَخْتَارَ حَدِيثَ الْبَاطِلِ عَلَى حَدِيثِ الْحَقِّ . قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِنَاءِ . ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ بِإِعْلَانِ الْغِنَاءِ . قَالَ وَأَمَّا غِنَاءُ القينات فَذَلِكَ أَشَدُّ مَا فِي الْبَابِ لِكَثْرَةِ الْوَعِيدِ الْوَارِدِ فِيهِ , وَهُوَ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ اسْتَمَعَ إلَى قَيْنَةٍ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " الْآنُكُ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ . وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ لَهْوِ الْحَدِيثِ بِالْغِنَاءِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . فَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَا تَبِيعُوا القينات وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ فَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَتِهِنَّ فَهُنَّ وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ " فِي مِثْلِ هَذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: لِيَعْلَمَ طَالِبُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: هُوَ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ . قَالَ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ تَفْسِيرِ مَنْ بَعْدَهُمْ , فَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ كِتَابِهِ , فَعَلَيْهِمْ نَزَلَ وَهُمْ أَوْلَى مَنْ خُوطِبَ بِهِ مِنْ الْأُمَّةِ , وَقَدْ شَاهَدُوا تَفْسِيرَهُ مِنْ الرَّسُولِ عِلْمًا وَعَمَلًا , وَهُمْ الْعَرَبُ الْفُصَحَاءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا وُجِدَ إلَيْهِ سَبِيلٌ . وَلَا نُعَارِضُ بَيْنَ تَفْسِيرِ لَهْوِ الْحَدِيثِ بِالْغِنَاءِ وَتَفْسِيرِهَا بِأَخْبَارِ الْأَعَاجِمِ وَمُلُوكِهَا وَمُلُوكِ الرُّومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ بِهِ أَهْلَ مَكَّةَ يَشْغَلُهُمْ عَنْ الْقُرْآنِ , لِأَنَّ كِلَيْهِمَا لَهْوٌ , وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغِنَاءَ أَشَدُّ لَهْوًا مِنْ أَخْبَارِ الْمُلُوكِ وَأَعْظَمُ ضَرَرًا , فَإِنَّهُ رُقْيَةُ الزِّنَا , وَشَرَكُ الشَّيْطَانِ , وَخَمْرَةُ الْعُقُولِ , وَيَصُدُّ عَنْ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ لِشِدَّةِ مَيْلِ النُّفُوسِ إلَيْهِ وَرَغْبَتِهَا فِيهِ . وَقَالَ فِي اسْمِ الزُّورِ وَاللَّغْوِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَرُّوا كِرَامًا} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الزُّورُ هَهُنَا الْغِنَاءُ . وَقَالَهُ اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ . وَأَطَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ الْكَلَامَ عَلَى أَسْمَائِهِ إطَالَةً تَمْنَعُ اسْتِقْصَاءَ مَا قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَنْشَدَ لِنَفْسِهِ: فَدَعْ صَاحِبَ الْمِزْمَارِ وَالدُّفِّ وَالْغِنَا وَمَا اخْتَارَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مَذْهَبَا وَدَعْهُ يَعِشْ فِي غَيِّهِ وَضَلَالِهِ عَلَى مَا نَشَا يَحْيَى وَيُبْعَثُ أَشْيَبَا وَفِي بَيْنِنَا يَوْمَ الْمَعَادِ نَجَاتُهُ إلَى الْجَنَّةِ الْحَمْرَاءِ يُدْعَى مُقَرَّبَا سَيَعْلَمُ يَوْمَ الْعَرْضِ أَيَّ بِضَاعَةٍ أَضَاعَ وَعِنْدَ الْوَزْنِ مَا خَفَّ أَوْ رَبَا وَيَعْلَمُ مَا قَدْ كَانَ فِيهِ حَيَاتُهُ إذَا حُصِّلَتْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا هَبَا دَعَاهُ الْهُدَى وَالْغَيُّ مَنْ ذَا يُجِيبُهُ؟ فَقَالَ لِدَاعِي الْغَيِّ أَهْلًا وَمَرْحَبَا وَأَعْرَضَ عَنْ دَاعِي الْهُدَى قَائِلًا لَهُ هَوَايَ إلَى صَوْتِ الْمَعَازِفِ قَدْ صَبَا يَرَاعٌ وَدُفٌّ بِالصُّنُوجِ وَشَادِنٌ وَصَوْتُ مُغَنٍّ صَوْتُهُ يَقْنِصُ الظبا إذَا مَا تَغَنَّى فَالظِّبَاءُ مُجِيبَةٌ إلَى أَنْ يَرَاهَا حَوْلَهُ تُشْبِهُ الدبا فَمَا شِئْت مِنْ صَيْدٍ بِغَيْرِ تَطَارُدٍ وَوَصْلِ حَبِيبٍ كَانَ بِالْهَجْرِ عَذْبَا فَيَا آمِرًا بِالرُّشْدِ لَوْ كُنْت حَاضِرًا لَكَانَ إلَى الْمَنْهِيِّ عِنْدَك أَقْرَبَا
وَالْمَعَازِفِ (الرَّابِعُ) فِي بَيَانِ تَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّرِيحِ لِآلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ , وَسِيَاقُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ . مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَا حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنهم سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مُحْتَجًّا بِهِ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَلَمْ يَصْنَعْ مَنْ قَدَحَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا كَابْنِ حَزْمٍ نُصْرَةً لِمَذْهَبِهِ الْبَاطِلِ فِي إبَاحَةِ الْمَلَاهِي , وَزَعَمَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَصِلْ سَنَدَهُ بِهِ وَإِنَّمَا قَالَ بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ وَاَللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فَذَكَرَهُ . وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ لَقِيَ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ وَسَمِعَ مِنْهُ , فَقَوْلُهُ قَالَ هِشَامٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَنْ هِشَامٍ قَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّةِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ: وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلَ الْإِسْنَادِ حَذْفٌ مَعَ صِيغَةِ الْجَزْمِ فَتَعْلِيقًا عُرِفَ وَلَوْ إلَى آخِرِهِ أَمَّا الَّذِي لِشَيْخِهِ عَزَا يُقَالُ فَكَذَا عَنْعَنَةٌ كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ لَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ الْمُخَالِفِ قَالَ فِي شَرْحِهِ: قَوْلُهُ كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ هُوَ مِثَالٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالتَّحْدِيثِ أَوْ الْإِخْبَارِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ إلَى آخِرِهِ . قَالَ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حُكْمُهُ الِاتِّصَالُ لِأَنَّ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَحَدَّثَ عَنْهُ بِأَحَادِيثَ , وَخَالَفَ ابْنُ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْمُحَلَّى هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لَمْ يَتَّصِلْ مَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَصَدَقَةَ ابْنُ خَالِدٍ , قَالَ وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ أَبَدًا , قَالَ وَكُلُّ مَا فِيهِ فَمَوْضُوعٌ . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ فِي رَدِّهِ ذَلِكَ . قَالَ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . قَالَ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَعْرُوفُ الِاتِّصَالِ بِشَرْطِ الصَّحِيحِ . قَالَ وَالْبُخَارِيُّ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَعْرُوفًا مِنْ جِهَةِ الثِّقَاتِ عَنْ الشَّخْصِ الَّذِي عَلَّقَهُ عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ مُتَّصِلًا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصْحَبُهَا خَلَلُ الِانْقِطَاعِ . انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ . قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ مِنْ طُرُقٍ , مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ . قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الْمُسْتَخْرَجِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ وَهُوَ ابْنُ سُفْيَانَ النَّسَوِيُّ الْإِمَامُ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ فَذَكَرَهُ . وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ , عَمَّارٍ . انْتَهَى . وَقَوْلُهُ فَكَذَا عَنْعَنَةٌ أَيْ أَمَّا مَا عَزَاهُ الْبُخَارِيُّ إلَى بَعْضِ شُيُوخِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ كَقَوْلِهِ قَالَ فُلَانٌ وَزَادَ فُلَانٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ التَّعْلِيقِ عَنْ شُيُوخِ شُيُوخِهِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِسْنَادِ المعنعن وَحُكْمُ المعنعن الِاتِّصَالُ بِشَرْطِ ثُبُوتِ اللُّقِيِّ وَالسَّلَامَةِ مِنْ التَّدْلِيسِ , وَاللُّقِيُّ فِي شُيُوخِهِ مَعْرُوفٌ , وَالْبُخَارِيُّ سَالِمٌ مِنْ التَّدْلِيسِ فَلَهُ حُكْمُ الِاتِّصَالِ , هَكَذَا جَزَمَ بِهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ مِثْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ لَمْ يَسْتَجِزْ الْجَزْمَ بِهِ عَنْهُ إلَّا وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ , وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَكُونُ لِكَثْرَةِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَشُهْرَتِهِ , فَالْبُخَارِيُّ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ التَّدْلِيسِ كَمَا فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ . (الثَّالِثُ) لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ هَذَا كُلِّهِ صَفْحًا فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ عِنْدَ غَيْرِهِ . قَالَ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ فَذَكَرَهُ , وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي كِتَابِهِ الصَّحِيحِ مُسْنَدًا فَقَالَ أَبُو عَامِرٍ وَلَمْ يَشُكَّ , وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْمَعَازِفَ هِيَ آلَاتُ اللَّهْوِ كُلُّهَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَتْ حَلَالًا لَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى اسْتِحْلَالِهَا وَقَرْنِهَا بِاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ وَالْخَزِّ , وَرُوِيَ الْحِرَّ , فَعَلَى رِوَايَةِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ فَهُوَ اسْتِحْلَالُ الْفُرُوجِ الْحَرَامِ , وَعَلَى رِوَايَةِ الْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْحَرِيرِ غَيْرَ الَّذِي صَحَّ عَنْ الصَّحَابَةِ لُبْسُهُ إذْ الْخَزُّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ حَرِيرٍ وَالثَّانِي مِنْ صُوفٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالْوَجْهَيْنِ وَفِي الْبَابِ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ منابط وَالْفَارِّ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنهم قَدْ اسْتَقْصَاهَا الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ بِالْأَسَانِيدِ , وَبَيَّنَ حَالَهَا بِأَتَمِّ بَيَانٍ وَأَكْمَلِ تَسْدِيدٍ . فَمِمَّا ذَكَرَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ , قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى؟ قَالَ: إذَا ظَهَرَتْ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ , وَاسْتُحِلَّ الْخَمْرُ " رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ " يَكُونُ فِي أُمَّتِي قَذْفٌ وَخَسْفٌ , فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَتَى ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا ظَهَرَتْ الْمُغَنِّيَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْمِزْرَ وَالْكُوبَةَ وَالْقِنِّينَ , وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: " إَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْمِزْرَ وَالْكُوبَةَ وَالْغُبَيْرَاءَ " . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَفْظِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْكُوبَةُ الطَّبْلُ , قَالَهُ سُفْيَانُ , وَقِيلَ الْبَرْبَطُ , والقنين هُوَ الطُّنْبُورُ بِالْحَبَشِيَّةِ , وَالتَّغْبِيرُ الضَّرْبُ بِهِ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ رحمه الله تعالى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (وَأَقْبَلُ) مِنْ شَخْصٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (إنْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ , وَيَرْجِعُ فِعْلُ الشَّرْطِ , وَيُنْشِدُ مَعْطُوفٌ , وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَأَقْبَلُ (يَرْجِعُ) فِي قَوْلِهِ كَمَا تَرْجِعُ الْأَعْرَابُ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: التَّرْجِيعُ تَرْدِيدُ الصَّوْتِ فِي الْحَلْقِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا , وَفِي الْأَذَانِ ذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ جَهْرًا بَعْدَ إخْفَائِهِمَا (وَ) أَقْبَلُ مِنْهُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ أَنْ (يُنْشِدَ) شِعْرًا .
وَنَشِيدِ الْأَعْرَابِ كَمَا تُنْشِدُ الْأَعْرَابُ أَوْ يَحُدَّ قَوْلَهُ وَمَنْ يَتْلُ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمُمَجَّدِ (كَمَا تُنْشِدُ الْأَعْرَابُ) فِي مَحَافِلِهِمْ وَخَلَوَاتِهِمْ وَمَجَامِعِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ وَحُرُوبِهِمْ وَفَرَحِهِمْ وَسُرُورِهِمْ , يُقَالُ نَشَدَ الشِّعْرَ أَيْ قَرَأَهُ , وَنَشَدَ بِهِمْ هَجَاهُمْ , وَتَنَاشَدُوا الشِّعْرَ نَشَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا والنشدة بِالْكَسْرِ الصَّوْتُ , وَالنَّشِيدُ رَفْعُ الصَّوْتِ , وَالشِّعْرُ الْمُتَنَاشَدُ كَالْأُنْشُودَةِ وَالْجَمْعُ أَنَاشِيدُ , وَاسْتَنْشَدَ الشِّعْرَ طَلَبَ إنْشَادَهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (أَوْ) أَيْ وَأَقْبَلُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنْ (يَحُدَّ) الْحَادِي (قَوْلَهُ) أَيْ مَقُولَهُ فِي الْحُدَاءِ . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ: وَيُبَاحُ الْحُدَاءُ الَّذِي تُسَاقُ بِهِ الْإِبِلُ وَنَشِيدُ الْأَعْرَابِ , وَفِي الْإِنْصَافِ: وَقِيلَ الْحُدَاءُ وَنَشِيدُ الْأَعْرَابِ كَالْغِنَاءِ فِي ذَلِكَ , وَقِيلَ يُبَاحُ . انْتَهَى . قُلْت: الْمَذْهَبُ الْإِبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِمَا تَظَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ , وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْآثَارُ , مِنْ إنْشَادِ الْأَشْعَارِ , وَالْحُدَاءِ فِي الْأَسْفَارِ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى إبَاحَةِ الْحُدَاءِ . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى إبَاحَةِ الْحُدَاءِ . قَالَ وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إشْعَارٌ بِنَقْلِ خِلَافٍ فِيهِ وَمَانِعُهُ مَحْجُوجٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . قَالَ وَيَلْتَحِقُ بِالْحُدَاءِ غِنَاءُ الْحُجَّاجِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى التَّشَوُّقِ إلَى الْحَجِّ بِذِكْرِ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَشَاهِدِ وَنَظِيرُهُ مَا يُحَرِّضُ أَهْلَ الْجِهَادِ عَلَى الْقِتَالِ , وَمِنْهُ غِنَاءُ الْمَرْأَةِ لِتَسْكِينِ الْوَلَدِ فِي الْمَهْدِ . انْتَهَى . وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحْدَى لَهُ فِي السَّفَرِ , وَأَنَّ أَنْجَشَةَ كَانَ يَحْدُو بِالنِّسَاءِ , وَالْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ يَحْدُو بِالرِّجَالِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا أَنْجَشَةُ كَيْفَ سَوْقُك بِالْقَوَارِيرِ " . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يَزِيدَ عَنْ سَلَمَةَ يَعْنِي ابْنَ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا فَنَزَلَ يَحْدُو قَالَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَاغْفِرْ فَدَاءً لَك مَا اقْتَفَيْنَا وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا وألقين سَكِينَةً عَلَيْنَا إنَّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ هَذَا الْحَادِي؟ قَالُو ابْنُ الْأَكْوَعِ , قَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ , قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْلَا أَمْتَعْتنَا بِهِ فَأُصِيبَ " الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْإِبِلُ تَزِيدُ فِي نَشَاطِهَا وَقُوَّتِهَا بِالْحُدَاءِ , فَتَرْفَعُ آذَانَهَا وَتَلْتَفِتُ يُمْنَاهَا وَيُسْرَاهَا وَتَنْتَحِبُ فِي مَشْيِهَا . وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَوَائِلِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْحُدَاءَ غُلَامٌ لِمُضَرِ بْنِ نَزَارٍ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مُضَرَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَادٍ يَحْدُو , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِيلُوا بِنَا إلَيْهِ فَقَالَ مِمَّنْ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا مِنْ مُضَرَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَدْرُونَ مَتَى كَانَ الْحُدَاءُ؟ فَقَالُوا بِأَبِينَا وَأُمِّنَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كَانَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنَّ أَبَاكُمْ مُضَرَ خَرَجَ فِي طَلَبِ مَالٍ لَهُ فَوَجَدَ غُلَامَهُ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ إبِلُهُ فَضَرَبَهُ بِالْعَصَا أَيْ عَلَى يَدِهِ , فَأَوْجَعَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ , فَعَدَا الْغُلَامُ فِي الْوَادِي وَهُوَ يَصِيحُ وايداه وايداه , فَسَمِعَتْ الْإِبِلُ صَوْتَهُ فَعَطَفَتْ عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ , فَقَالَ مُضَرُ لَوْ اُشْتُقَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مِثْلُ هَذَا لَكَانَ كَلَامًا تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْإِبِلُ , فَاشْتُقَّ الْحُدَاءُ مِنْ ذَلِكَ . وَكَانَ سَلَّامٌ الْحَادِي مِنْ الْعَرَبِ فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحُدَائِهِ , فَقَالَ يَوْمًا لِلْمَنْصُورِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُرْ الْجَمَّالِينَ بِأَنْ يُظْمِئُوا الْإِبِلَ ثُمَّ يُورِدُوهَا الْمَاءَ فَإِنِّي آخِذٌ فِي الْحُدَاءِ فَتَرْفَعُ رُءُوسَهَا وَتَتْرُكُ الشُّرْبَ فَفَعَلُوا , فَجَرَى مَا الْتَزَمَ وَحَدَا لَهَا بِقَوْلِهِ: أَلَا يَا بَانَةَ الْوَادِي بِشَاطِئِ نَهْرِ بَغْدَادِ شَجَانِي فِيك صِيَاحٌ طَرُوبٌ فَوْقَ مَيَّادِ يُذَكِّرُنِي تَرَنُّمُهُ تَرَنُّمَ رَنَّةِ الشَّادِي إذَا اسْوَدَّتْ مثالثها فَلَا تَذْكُرُ أَخَا الْهَادِي وَإِنْ جَاءَتْ بِنَغْمَتِهَا نَسِينَا نَغْمَةَ الْحَادِي أَخَا الْهَادِي: " إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ أَخُو الرَّشِيدِ عَمُّ الْمَأْمُونِ " . قَالَ أَصْحَابُ الْأَوَائِلِ: وَأَوَّلُ مَنْ اشْتَهَرَ بِالْحُدَاءِ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ الْحَادِي , يُضْرَبُ الْمِثْلُ بِهِ , وَكَانَ يُهْلِكُ الْإِبِلَ بِحُسْنِ صَوْتِهِ . كَانَ يَحْدُو فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَوَرَدَ فِي الْخَبَرِ فِي أَوَائِلِ الْحُدَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ رحمه الله أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ قَوْمًا فِيهِمْ حَادٍ يَحْدُو فَقَالَ: مِمَّنْ الْقَوْمُ؟ قَالُوا مِنْ مُضَرٍ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم <176 وَأَنَا بْنُ , مُضَرٍ , قَالُوا أَيُّ الْعَرَبِ حَدَا أَوَّلًا , فَذَكَرَ نَحْوَ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إلَّا أَنَّهُ ذَهَبَ الْغُلَامُ وَهُوَ يَقُولُ وَايَدَاه وَايَدَاه هنييا هنييا , فَتَحَرَّكَتْ الْإِبِلُ لِذَلِكَ فَسَارَتْ وَنَشِطَتْ فَفَتَحَ النَّاسُ الْحُدَاءَ . فَوَائِدُ فِي أَوَّلِ مَنْ وَضَعَ عِلْمَ الْمُوسِيقَى وَالْعُودِ لِلْغِنَاءِ وَأَوَّلِ مَنْ غَنَّى فِي الْعَرَبِ (فَوَائِدُ: الْأُولَى) أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ عِلْمَ الْمُوسِيقَى وَأُصُولِ الْأَلْحَانِ فِيثَاغُوثَ الهرمس , أَدْرَكَهُ بِقُوَّةِ الذِّهْنِ وَحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ , فَاسْتَمَعَ الْأَصْوَاتَ وَرَتَّبَ الْأَلْحَانَ الثَّمَانِيَةَ بِحَسَبِ الْأَدْوَارِ الْفَلَكِيَّةِ وَأَصْوَاتِهَا كَمَا فِي تَارِيخِ الْحُكَمَاءِ . (الثَّانِيَةُ) أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْعُودَ لِلْغِنَاءِ لَامِكُ بْنُ قَانِيَانَ , بَكَى بِهِ عَلَى وَالِدِهِ . وَيُقَالُ إنَّ صَانِعَ الْعُودِ بَطْلَيْمُوسُ الْحَكِيمُ صَاحِبُ الْمُوسِيقَى كَمَا فِي بَهْجَةِ التَّوَارِيخِ , وَهَذَا أَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (الثَّالِثَةُ) أَوَّلُ مَنْ غَنَّى فِي الْعَرَبِ قَيْنَتَانِ لِعَادٍ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ , هَكَذَا فِي أَوَائِلِ عَلِيٍّ دَدَهْ وَالْمُسْتَطْرِفِ وَغَيْرِهِمَا , وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَرَادَتَيْنِ كَانَتَا بِمَكَّةَ , وَأَنَّ وَفْدَ عَادٍ لَمَّا ذَهَبُوا لِمَكَّةَ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَسْقُوا فِي الْحَرَمِ كَانَتْ الْجَرَادَتَانِ تُغْنِيَاهُمْ وَكَانَ سَيِّدُهُمَا أَمَرَهُمَا أَنْ يُغْنِيَاهُمْ بِهَذَا الشِّعْرِ: أَلَا يَا قِيلَ وَيْحُك قُمْ فَهَيْنِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يَسْقِينَا غَمَامًا فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إنَّ عَادًا قَدْ أَمْسَوْا مَا يُبَيِّنُونَ الْكَلَامَا وَأَوَّلُ مَنْ غَنَّى فِي الْإِسْلَامِ الْغِنَاءَ الرَّقِيقَ طُوَيْسٌ , وَكَانَ اسْمُهُ طَاوُوسٌ , وَلَمَّا تَخَنَّثَ صَغَّرُوهُ وَضُرِبَ بِهِ الْمِثْلُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِالشَّآمَةِ , فَقِيلَ أَشْأَمُ مِنْ طُوَيْسٍ وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحِيمِ كَمَا فِي أَوَائِلِ السُّيُوطِيِّ . قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله تعالى فِي أَوَائِلِهِ: وَأَوَّلُ مَنْ تَغَنَّى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إبْلِيسُ , ثُمَّ زَمْزَمَ بَعْدَ الْغِنَاءِ , ثُمَّ جَرَى ثُمَّ صَاحَ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
(وَمَنْ يَتْلُ آيَاتِ الْكِتَابِ) الْمَجِيدِ (الْمُمَجَّدِ) حَالَ كَوْنِهَا مُلَحَّنَةً فِي كُرْهِهِ الْقَاضِي اتَّبِعْ وَفَصَّلَ قَوْمٌ فِيهِ تَفْصِيلَ مُرْشَدِ (مُلَحَّنَةً) بِأَنْ يُرَاعَى فِيهَا الْأَلْحَانُ وَقَانُونُ الْمُوسِيقَى (فِي كُرْهِهِ) أَيْ فِي كَرَاهَةِ هَذِهِ التِّلَاوَةِ (الْقَاضِي أَبَا يَعْلَى بْنَ الْفَرَّاءِ (اتَّبِعْ) قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ وَقَالَ بِدْعَةٌ لَا يُسْمَعُ كُلُّ شَيْءٍ مُحْدَثٍ لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يَكُونَ طَبْعَ الرَّجُلِ كَأَبِي مُوسَى . وَنَقَلَ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ يُحْسِنُهُ بِلَا تَكَلُّفٍ (وَفَصَّلَ قَوْمٌ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ يَعْنِي قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ (تَفْصِيلَ) شَخْصٍ (مُرْشَدِ) اسْمُ مَفْعُولٍ أَيْ مُوَفَّقٍ لِلرُّشْدِ وَالتَّسْدِيدِ , أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ مُرْشِدٍ لِغَيْرِهِ فَقَالُوا: إذَا حَرَكَاتُ اللَّفْظِ بُدِّلْنَ أَحْرُفًا بِإِشْبَاعِهِ حَرِّمْ لِذَاكَ وَشَدِّدْ (إذَا حَرَكَاتُ اللَّفْظِ) فِي الْقِرَاءَةِ (بُدِّلْنَ أَحْرُفًا) بِأَنْ تَوَلَّدَ مِنْ الْفَتْحَةِ أَلِفًا وَمِنْ الضَّمَّةِ وَاوًا وَمِنْ الْكَسْرَةِ يَاءً (بَ) سَبَبِ (إشْبَاعِهِ) أَيْ إشْبَاعِ اللَّفْظِ الْقَارِئِ (حَرِّمْ) أَيْ اعْتَقِدْ حُرْمَتَهُ (لِ) أَجْلِ (ذَاكَ) أَيْ إبْدَالِ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا (وَشَدِّدْ) فِي النَّهْيِ عَنْهُ وَالتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ أَحْرُفٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ جَمَاعَةٌ: إنْ غَيَّرْت يَعْنِي قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ النَّظْمَ حَرُمَتْ فِي الْأَصَحِّ , وَإِلَّا فَوَجْهَانِ فِي الْكَرَاهَةِ . وَفِي الْوَسِيلَةِ يَحْرُمُ نَصَّ عَلَيْهِ وَعَنْهُ يُكْرَهُ , وَقِيلَ لَا وَلَمْ يُفَرِّقْ . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ وَقَالَ هِيَ بِدْعَةٌ , فَإِنْ حَصَلَ مَعَهَا تَغْيِيرُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَجَعْلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا حَرُمَ . وَقَالَ الشَّيْخُ: التَّلْحِينُ الَّذِي يُشْبِهُ الْغِنَاءَ مَكْرُوهٌ وَلَا يُكْرَهُ التَّرْجِيعُ وَتَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ . قَالَ فِي الشَّرْحِ: بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ , وَيَأْتِي فِي آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فَلَا بَأْسَ قَدْ تَلَا الرَّسُولُ بِتَرْجِيعٍ وَصَوْتٍ لَهُ ندي (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا) أَيْ تَغْيِيرُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَجَعْلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا بِأَنْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ (فَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا حُرْمَةَ , وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ وَظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ لَا كَرَاهَةَ خِلَافًا لِلْقَاضِي , وَمِنْ ثَمَّ قَالَ (قَدْ تَلَا الرَّسُولُ) الْأَمْجَدُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم (بِتَرْجِيعٍ) أَيْ تَرْدِيدٍ (وَصَوْتٍ لَهُ) أَيْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ندي) بِكَسْرِ الدَّالِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ أَيْ حَسَنٍ وَرَطْبٍ فَلَا كَرَاهَةَ مَعَ ثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الرِّقَّةِ وَإِثَارَةِ الْخَشْيَةِ وَإِقْبَالِ النُّفُوسِ عَلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْفَتَاوَى الطَّرَابُلْسِيَّةِ: وَنُقِلَ عَنْهُ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ فِي بَابِ تَحْرِيمِ تَلْحِينِ الْقُرْآنِ وَالتَّغَنِّي بِهِ: لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ , يَعْنِي فِي النَّهْيِ عَنْ التَّلْحِينِ وَالتَّغَنِّي بِهِ , بَلْ وَرَدَ خِلَافُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ , وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ وَيُرْجِعُ فِيهَا قَالَ الرَّاوِي وَالتَّرْجِيعُ (آآآ) قُلْت وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ . رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ فَرَجَعَ فِي قِرَاءَتِهِ " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ " لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ " لَقَدْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَسْمَعُ لِقِرَاءَتِك الْبَارِحَةَ " وَأَقُولُ: أَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ , وَأَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ مَشْهُورَةٌ بِذَلِكَ فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ , وَدَلَائِلُ هَذَا مِنْ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَحَدِيثِ " زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ " وَحَدِيثُ " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا " وَحَدِيثُ " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ . وَمَعْنَى أَذِنَ اسْتَمَعَ كَمَا يَأْتِي بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فِي آدَابِ الْقُرْآنِ , وَحَدِيثِ " لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ , وَحَدِيثِ " مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ . قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ أَيْ مَنْ لَمْ يُحَسِّنْ صَوْتَهُ بِهِ . وَعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: مَرَّ بِنَا أَبُو لُبَابَةَ فَأَتْبَعْنَاهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ فَدَخَلْنَاهُ عَلَيْهِ , فَإِذَا رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " قَالَ فَقُلْت لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ؟ قَالَ يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ . وَالْمَرْفُوعُ مِنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ " سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ بِالْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْت أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ " . فَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَرْتِيلِهَا مَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ بِالتَّمْطِيطِ فَإِنْ أَفْرَطَ حَتَّى زَادَ حَرْفًا أَوْ أَخْفَاهُ حَرُمَ . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ فَهِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ حَيْثُ خَلَتْ عَنْ التَّمْطِيطِ وَإِبْدَالِ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا . فَالْمَذْهَبُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا . وَظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ . وَقَدْ يُقَالُ التَّمْطِيطُ الْمُتَكَلَّفُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى التَّعَسُّفِ وَالتَّشَدُّقِ وتلوق الْفَمِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْهُ حُرُوفٌ لِإِخْرَاجِ الْقِرَاءَةِ عَنْ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ وَالْقَانُونِ الْعَرَبِيِّ إلَى التَّعَوُّجِ وَالتَّشَدُّقِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَظَاهِرُ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي (التِّبْيَانِ) عَدَمُ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَا تَمْطِيطَ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ حُرُوفٌ لِأَنَّهُ قَالَ إنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ لَفْظِهِ وَقَرَأَهُ عَلَى تَرْتِيلِهِ كَانَ أَيْ التَّلْحِينُ مُبَاحًا . وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: وَأَمَّا الْقُرْآنُ بِالْأَلْحَانِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي مَوَاضِعَ أَكْرَهُهَا , وَقَالَ فِي مَوَاضِعَ لَا أَكْرَهُهَا . قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ , فَإِنَّ أَفْرَطَ فِي التَّمْطِيطِ فَجَاوَزَ الْحَدَّ فَهُوَ الَّذِي كَرِهَهُ وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَكْرَهْهُ . ثُمَّ نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ إنْ أَخْرَجَتْ لَفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتِهِ بِإِدْخَالِ حَرَكَاتٍ فِيهِ أَوْ إخْرَاجِ حَرَكَاتٍ عَنْهُ أَوْ قَصَرَ مَمْدُودًا أَوْ مَدَّ مَقْصُورًا , وَتَمْطِيطٍ يَخْفَى بِهِ بَعْضُ اللَّفْظِ وَيَلْتَبِسُ الْمَعْنَى فَهُوَ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ , لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ إلَى الِاعْوِجَاجِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ
وَلَا بَأْسَ بِالشِّعْرِ الْمُبَاحِ وَحِفْظِهِ وَصَنْعَتِهِ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْتَدِي (لَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (بِ) إنْشَادِ (الشِّعْرِ) وَهُوَ كَلَامٌ مُقَفَّى مَوْزُونٌ (الْمُبَاحِ) الَّذِي سَلِمَ مِنْ هِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ , وَمِنْ وَصْفِ خَمْرَةٍ أَوْ أَمْرَدَ وَكَذَا امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ رحمه الله . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: الشِّعْرُ كَالْكَلَامِ سَأَلَهُ أَبُو مَنْصُورٍ , أَيْ سَأَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه مَا يُكْرَهُ مِنْهُ يَعْنِي الشِّعْرَ؟ قَالَ الْهِجَاءُ وَالرَّقِيقُ الَّذِي يُشَبِّبُ بِالنِّسَاءِ , وَأَمَّا الْكَلَامُ الْجَاهِلِيُّ فَمَا أَنْفَعَهُ . وَسَأَلَهُ عَنْ الْخَبَرِ " لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا " فَتَلَكَّأَ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ النَّضْرِ: لَمْ تَمْتَلِئْ أَجْوَافُنَا لِأَنَّ فِيهَا الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ , وَهَذَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا , فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ . وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَظْهَرُ . قَالَ وَإِنْ أَفْرَطَ شَاعِرٌ بالمدحة بِإِعْطَائِهِ وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ , أَوْ شَبَّبَ بِمَدْحِ خَمْرٍ أَوْ بِمُرْدٍ وَفِيهِ احْتِمَالٌ , أَوْ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَسَقَ لَا إنْ شَبَّبَ بِامْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ , ذَكَرَهُ الْقَاضِي . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: الشِّعْرُ كَالْكَلَامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ , وَلَا بَأْسَ بِاسْتِمَاعِ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ , وَلَا بَأْسَ بِ (حِفْظِهِ) أَيْ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (وَ) لَا بَأْسَ بِ (صَنْعَتِهِ) أَيْ إنْشَائِهِ وَنَظْمِهِ وَاِتِّخَاذِهِ صَنْعَةً وَالِاشْتِغَالِ بِهِ حَيْثُ لَمْ يَلِهِ عَنْ وَاجِبٍ (مَنْ رَدَّ ذَلِكَ) أَيْ إبَاحَةَ الشِّعْرِ إنْشَادًا وَاسْتِمَاعًا وَحِفْظًا وَأَنْشَأَ (يَعْتَدِي) بِرَدِّهِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ لِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ لَا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ بَلْ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ لَا رَدِّهِ . فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ شِعْرَ صِحَابِهِ وَتَشْبِيبَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ (فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ) . مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَالصَّفْوَةِ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ نَبِيُّنَا أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم (شِعْرَ صِحَابِهِ) رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ (وَ) سَمِعَ صلوات الله وسلامه عليه (تَشْبِيبَهُمْ) بِالنِّسَاءِ (مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ) جَمْعُ خَرِيدَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْخُفُورُ , الطَّوِيلَةُ السُّكُوتِ , الْخَافِضَةُ الصَّوْتِ , الْمُسْتَتِرَةُ وَقِيلَ الْبِكْرُ الَّتِي لَمْ تُمْسَسْ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ هِشَامٍ فِي صَدْرِ شَرْحِ بَانَتْ سُعَادُ: التَّشْبِيبُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ جِنْسٌ يَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا ذِكْرُ مَا فِي الْمَحْبُوبِ مِنْ الصِّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَحُمْرَةِ الْخَدِّ وَرَشَاقَةِ الْقَدِّ وَكَالْجَلَالَةِ وَالْخَفَرِ . وَالثَّانِي ذِكْرُ مَا فِي الْمُحِبِّ مِنْ الصِّفَاتِ أَيْضًا كَالنُّحُولِ وَالذُّبُولِ وَالْحُزْنِ وَالشَّغَفِ وَالثَّالِثُ ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ هَجْرٍ وَوَصْلٍ وَشَكْوَى وَاعْتِذَارٍ وَوَفَاءٍ وَإِخْلَافٍ . وَالرَّابِعُ مَا يَتَعَلَّقُ أَمْرُهُمَا بِسَبَبِهَا كَالْوُشَاةِ وَالرُّقَبَاءِ وَيُسَمَّى النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ تَشْبِيبًا أَيْضًا . وَفِي قَوْلِ النَّاظِمِ رحمه الله تعالى: فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ شِعْرَ صِحَابِهِ وَتَشْبِيبَهُمْ , إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ حُرْمَةِ التَّشْبِيبِ . وَلَمَّا خَشِيَ تَوَهُّمَ إطْلَاقِ الْإِبَاحَةِ دَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يتشبب بِمُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَاسْتِمَاعِهِ .
|